الحركات و الإشارات :
للإشارات والحركات أثرها أثناء الحدث والخطابة ، ومن هذه الحركات ما هو لا إرادي فالغاضب يقطب جبينه ويعبس وجهه ، وذو الحماس تنتفخ أوداجه وتحمر عيناه ، ومنهم من تنقبض أصابعه وتنبسط ، ومنهم من يبكي خشوعا ورقة ويعلو صوته حماسا وتفاعلا .
وبعضها إرادي من إشارات توجيهية يحتاج إليها في تنبيه لبعيد أو قريب ، إشارات تعكس الانفعال والمشاعر وتعين على مزيد من المتابعة والتوضيح .
وينبغي أن تكون إشارات منضبطة بقدر معقول وانفعال غير متكلف ومتساوقة مع الشعور الحقيقي .
طريقة البناء :
تبنى الخطبة عادة من ثلاثة أجزاء : المقدمة والموضوع والخاتمة . وهى عناصر لا يصرح بها أثناء الكتابة أو الإلقاء ، كما أنها عناصر متداخلة متناسقة ، يبلغ الترابط بينها جودته حسب مقدرة الخطيب وغزارة علمه وخبرته فتنتظم أجزاء الخطبة ويحكم تركيبها .
وهذا الانتظام والإحكام يجعل المعاني واضحة والمقاصد ظاهرة ، ويضمن للمتحدث حسن الإصغاء من سامعيه وكمال الانتباه من جالسيه .
وقد لا يلزم مراعاة هذه الأجزاء في كل خطبة لكن خطبة الجمعة غالبا ما تحتاج إليها نظرا لأنها خطبة طويلة غير قصيرة .
المقدمة :
ينبغي أن يهتم الخطيب بمقدمته وافتتاحيته ، فيأتي بعبارات الاستهلال التي توحي للسامع بمقصود الخطبة ، مما يشد الانتباه ويهيئ النفوس وقد يكون ذلك بآيات قرآنية زاجرة أو مرغبة أو بعض الحكم البليغة ، والافتتاحية هي أول ما يلقيه الخطيب على جمهوره فإذا ما فاجأهم بحسن التقديم استطاع متابعة بقية خطبته بانطلاق ونشوة وعاش مع جمالها اللفظي وسبكها الفني ومعناها الدقيق .
وإن الناظر في افتتاحيات أوائل السور في القرآن الكريم يدرك ما تثيره في النفس من الإجلال والشوق والرغبة في المتابعة ، فترى الافتتاح حينا بالثناء على الله عز وجل وتسبيحه وتنزيهه ، وحينا بالنداء أو الاستفهام أو القسم مما يولد الرغبة في المتابعة ولولد اللهفة في الاستكشاف لدى كل ذي ذوق رفيع وحس مرهف .
والمقصود أن يكون في صدر الكلام ما يدل على غاية المتحدث ، على أن من المعلوم أن خطبة الجمعة تفتتح بحمد الله والثناء عليه والشهادتين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون في هذه الألفاظ من حسن الانتقاء ما يدل على موضوع الخطبة ومقصودها .
ومعروف عند المتقدمين من السلف -رحمهم الله- أن ما لا يبتدأ بالحمد فهو الأجذم الأبتر ، وما لم يزين بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المشوه .
الموضوع :
وهو مقصود الخطبة الأعظم ، وقد أشرنا في الكلام على أنواع الخطب إلى معظم مقاصد خطبة الجمعة .
وقد يكون من المناسب التصريح به في مبتدأ الخطبة كأن يقول : أريد أن أحدثكم عن كذا . . إذا كان من قضايا الساعة التي يخوض فيها المجتمع ويطلع إلى كلام شاف فيها .
وقد لا يحسن التصريح به ، إما لأنه شائك أو يوجب انقسام الناس ، وفي هذه الحالة ينبغي أن يدخل إليه الخطيب دخولا متدرجا ، ولتناوله تناولا غير مباشر ، ليأخذ السامعين بتسلسل منطقي فيصل إلى مبتغاه باعتدال وتوازن متحاشيا الإثارة والانقسام ، ومن ثم يبلغ الخطيب غايته من تهيئة النفوس إن كانت عنه معرضة وإليه غير مقبلة أو كان حديثا في غير ما تألفه نفوسها .
وموضوع الخطبة عادة ما يبتنى على ركنين أساسيين هما التعريف و الإيضاح والاستدلال .
أما التعريف والإيضاح : فلا يقصد به ما يعتني به الباحثون المختصون من اللغة والاصطلاح ، ولكنه يكون بذكر الصفات والخواص والمزايا لذات الموضوع وقد يكون الاستعارات والتشبيهات وضرب الأمثال والإجمال ثم التفصيل وبالصلة والتضاد والتقابل . وانظر إلى هذا التعريف من علي -رضي الله عنه- للمتقين من خلالا أوصافهم ونعوتهم فهو يقول : "المتقون هم أهل الفضائل ، منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع ، غضوا أبصارهم عن الحرام ، ووقفوا أسماعهم على النافع من العلم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء ، ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب" .
أما الاستدلال : فغالبا يحتاج الموضوع إلى ما يدعمه بالأدلة والحجج والبراهين والشواهد وهي عادة ما تكون من الكتاب والسنة وأقوال السلف ، وإيراد بعض الوقائع والأحداث من باب القياس والاعتبار بل إن زيادة الإيضاح والبسط والبيان نوع من التدليل وكسب إقناع المستمعين بصدقها أو أهميتها أو خطورتها ، ومما يدخل في هذا الباب دخولا أوليا ربط الحاضر بالماضي وبخاصة تاريخ السلف الماضين فإن من النفوس من تحفظ تقديرا وإكبارا لسلفها المجيد ، وأصحابه الأماجد ، ولأمر ما قال الكفار : إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وقالوا : بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
ويفيد في هذا الباب النقل عن مشاهير الأئمة وحكمائها ممن عرفوا بالصلاح والإمامة والمروءة والزهد والشجاعة والورع حسب ما يقتضي المقام ويناسب المقال .
الخاتمة :
بعد أن يفرغ الخطيب من عرض موضوعه ، وسوق أدلته ، وضرب أمثلته وبيان دروسه ، وعبره ، وترغيبه وترهيبه ، يحسن أن ينهي خطبته بخاتمة مناسبة تجمع أفكاره ، وتلخص موضوعه ، بعبارات مغايرة ، وطريقة مختصرة ، لأن الإطالة في هذه الحالة تجلب الملل وتشتت الفكر . ولا ينبغي أن تحتوي على أفكار جديدة وأدلة جديدة لأنها حينئذ لا تكون خاتمة وإنما جزء من الخطبة وامتداد لها .
وتكون الخاتمة قوية في تعبيرها وتأثيرها ، لأنها آخر ما يطرق سمع السامع ويبقى في ذهنه ، وإذا كانت ضعيفة في تركيبها فاترة في إلقائها ، ذهبت فائدة الخطبة ، ذلك أن من نجاح الخطيب أن يلقي خاتمته بثقة وطريقة مؤثرة ومقنعة ، وكأنه يشعر جمهوره بأنه قد انتهى إلى رأي ومسألة لا تقبل الجدل ولا تحتمل النظر .
وقد تكون الخاتمة آيات قرآنية لم يسقها من قبل تجمع موضوعه في الترغيب أو الترهيب أو التدليل والإثبات ، وقد تكون حديثا نبويا يفيد ما تفيده الآيات القرآنية .
وقد يكون إعادة لعناصر الخطبة بأسلوب مغاير -كما أسلفت - وبطريقه جامعة واضحة ذات تأثير قوى .
هذا ما يتعلق في بناء الخطبة وثمت مسائل لا يسع الكاتب إغفالها من أجل استكمال التصور الشامل عن الخطبة وحسن إعدادها وهي مسائل ثلاث : وحدة الموضوع ، الجدة والتغيير ، طول الخطبة .
وحدة الموضوع :
ينبغي الاقتصار على موضوع واحد تستوفى عناصره ، وتحبر كلماته وتعمق معالجته ، لأن تشعب المواضيع وتعدد القضايا في المقام الواحد يشتت الأذهان ، وينسي بعضها بعضا ، ويقود إلى الإطالة المملة والصورة الباهتة وسطحية المعالجة .
الجدة والتغيير :
ويعني ذلك ألا يلتزم الخطيب طريقا واحدة أو وتيرة واحدة في أسلوبه وطريقة إلقائه ، بل يكون استفهاميا تارة ، وتقريريا أخرى ، وضربا للأمثال ، وتلمسا للحكم والأسرار ، مع ما يطلب من معايشه الأحداث ، ومتابعة المتغيرات ، وتلمس حاجات الناس وتوجيههم وتبصيرهم تمشيا مع أثر هذه المتغيرات عليهم .
على أن الخطب المنبرية بطبيعتها قد تستدعي تكرارا لبعض مواضيعها إن لم يكن كثيرا منها ؛ لأن من أعظم أغراضها ومقاصدها الدعوة والتذكير . والتذكير في حقيقته يعني الحديث عن شيء سبق علم السامع به فهو تنبيه لغافل ، وحث لمقصر ، مما تستدعي التجديد في الطرق والأسلوب والمعالجة ، كالتوحيد والعبادة والصلاة والصوم والزكاة وبر الوالدين والمحرمات من الربا والزنا والخمر والزور وأكل أموال الناس بالباطل وأمثالها مما يجب مراعاة التجديد في طرقها والتغيير في عرضها .
طول الخطبة :
من المعلوم أن معالجات المواضيع تختلف باختلاف محتواها وظروفها وسامعيها ، ففي بعض الظروف يحسن البسط والإطناب ، ويكون السامعون مستعدين لاستماع ، كما هو مشاهد في ظروف الأزمات و الأوضاع ذات النقاشات الحادة والأحوال المتوتر ، كما أن بعض الخطباء عنده من الجاذبية وحسن العرض والإلقاء ولطف التودد والأخذ بالألباب ومجامع العقول ما يجعلهم يطلبون المكوث حول خطيبهم ويقبلون منه الإطالة ، إن هذه ظروف وأوضاع لا تنكر ولكن الحال الأغلب والواقع الأعم أن النفوس لها حد تحسن فيه الاستماع وتدرك فيه المعاني ، بعده تتشبع وتقف ويصبح الكلام عندها مملولا ، والكلام ثقيلا ، وينسي بعضه بعضا ، فالوصية العامة للخطباء أن يجتنبوا الإطالة ويجنحوا إلى الاعتدال وتغليب جانب الاختصار على الإطناب في أعم الأحوال وقد قال عليه الصلاة السلام : إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه .
ويحسن من الخطيب أن يعود سامعيه على زمن معتدل ثابت يلتزمه فإنهم إذا خبوره بانضباطه ودقة التزامه أحبوه ولازموا حضوره .
ومن الخير للخطيب وجمهوره أن ينفضوا وهم متعلقون بخطيبهم من غير ملل أو سآمة .