بعد ما سبق من مقدمات وممهدات في تعريف الخطبة وغرضها وأنواعها وأثرها هذا دخول في جزء مهم من مقاصد هذا البحث ، ذلكم هو جزء الإعداد والبناء وسوف ينتظم ذلك الحديث عن : عناصر البناء وطريقة البناء .
توطئة :
لا يتوهم متوهم أن في إعداد الخطبة وتحضيرها ما يعيب القدرة أو يشكك في الأهلية ولكن المعيب أن يتفوه المتصدر للخطابة وحديث الناس بكلام مبتذل لا قيمة له هزيل في معناه متهدم في مبناه .
على الخطيب أن يعلم أنه كالخائض غمار معركة عليه أن يتدرع بدروعها ويتترس بتروسها ويلبس لها لأمتها ، ولا يكون ذلك إلا بالاستعداد والتهيؤ وأخذ العدة لكل موقف .
إن ذا الاطلاع الواسع والعلم الغزير إن لم يراجع نفسه حينا بعد حين ويفكر طويلا فيما يعتزم قوله ويزوق في نفسه أو قرطاسه من الألفاظ والعبارات المناسبة ، فلسوف يهتز موقفه ويضعف أسلوبه ويتراخى أداؤه ، ويتناقص عطاؤه ، وينحدر في منجرف الابتذال السحيق وتكون معالجاته سطحية تفقد تأثيرها وتخسر جمهورها .
عناصر البناء :
من المعلوم مما سبق ويتأكد فيما سيأتي أن الخطبة وسائر الأعمال العلمية والأدبية تحتاج إلى أسس ثلاثة .
قلب مفكر ، وبيان مصور ، ولسان معبر .
فالأول يكون به إيجاد الموضوع وابتكاره وتوليده ، وبالثاني تنسيقه وترتيبه ورصه ، وبالثالث عرضه والتعبير به .
وهذا بسط لهذه العناصر .
الإيجاد الابتكار :
( القلب المفكر ) وقد يعبر عنه بالاختيار ( اختيار الموضوع ) .
من المعلوم أن بواعث الاختيار متعددة ، والخطيب كلما كان صادقا في قصده ، مهتما بجمهوره وسامعيه ، جادا في طرحه محترما لنفسه ، فسوف يحسن الاختيار ، ولقدح زناد فكره بجدية نحو الابتكار وحسن الاختلاف ، يضاف إلى ذلك الظروف المحيطة ، والأحوال المستجدة ، والأغراض الباعثة التي تستدعي الحديث عن بعض الوقائع والتعليق على بعض الأحداث والتفسير لبعض المواقف وتصحيح بعض المفاهيم ، ونظر الخطيب الحصيف يدله على تقديم بعض وتأخير بعض وحسن التفسير ونوع التعليق .
التنسيق والترتيب :
( البيان المصور ) لا يخفى أن طريق البيان المصور هو الأسلوب .
للأسلوب سلطان لا يضعفه العقل وأثر لا يمحوه الدليل ، الأسلوب ألفاظ وجمل ينطق بها المتكلم ويتحدث بها الخطيب لا تكاد تخرج من فيه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين وتمتد الأعناق له احتراما ، ألفاظ وجمل تثير في النفوس صورا لا حد لها ولا انحصار ، محفوظة بالإكبار والتقدير ، إذا كان هذا هو بعض أثر الأسلوب وتأثيره فكيف يكون الشأن في المعنى المحكم وقد كسي بلفظ جميل وألقي بلفظ منسجم وعبارات تثير في النفس أخيلة وأماني .
وينبغي أن يلحظ أن ثمت فرقا بين أسلوب الخطابة وغيرها من ألوان الكتابة والآداب فالمستمع يتوجه نحو الخطيب بسمعه وذوقه وفكره فللكلمات أثر على السمع ، وللجرس في النفس وقع ، وللعقل فيه إدراك .
ومن أجل هذا فينبغي أن تكون ألفاظ الخطبة سهله النطق لا يتعثر اللسان في إبرازها ، ولا تتزاحم حروفها فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد ، كما ينبغي أن تكون ذات جرس خاص يهز النفس ويثير الشعور ، وتكون الجمل ذات مقاطع قصيرة كل جملة كاملة في معناها .
إن من أهم خصائص الأسلوب الخطابي عنصر الشعور والوجدان والإثارة والتشويق وإذا فقد ذلك فقد فُقِد أكبر خصائصه .
أسلوب التكرار والتفنن في التعبير عنصر في الخطابة هام ، فالخطيب محتاج إلى تكرار فكرته ومغايرة تصويره ، فمرة بالتقرير ومرة بالاستفهام وأخرى بالاستنكار ورابعة بالتهكم .
أما فن الإيجاز والإطناب فيختلف من حال إلى حال ، فيراعى حال السامعين في إقبالهم ومللهم ونوع الموضوع وظروف الإلقاء وردود الفعل عند السامعين .
أما ألفاظ الخطبة وعباراتها فينبغي أن تتسم بالوضوح والبيان لتكون سهلة الإدراك من السامعين سريعة الإيصال إلى المقصود بعيدة عن الوحشي والتكلف .
وفي ذات الوقت تبقى محترمة غير مبتذلة تحفظ للخطيب وخطبته الهيبة والوقار وللموقف مكانته وجلاله .
فهي ألفاظ منتقاة في غير إغراب في أسلوب سهل ممتنع يفهمه الدهماء ولا يجفو عنه الأكفاء .
ومن الحذق في المعرفة أن يدرك الخطيب أن خطاب الحماس غير خطاب التألم ، وحديث الترغيب غير حديث الترهيب ، وأسلوب تعداد المفاخر وزرع الثقة غير أسلوب التواضع وذم الكبر والمتكبرين ، والخطيب المتمرس هو الذي يضع كل نوع في موضعه ويختار لكل كلمة قالبها وميدانها .
أما السجع فيجمل منه ما ليس بمتكلف قصير الفقرات ، سهل المأخذ يخف على السمع ، ويحرك المشاعر بحسن جرسه ، ويكون خفيفا سهلا إذا سلم من الغثاثة وجانب الركاكة ، اللفظ فيه تابع للمعنى وليس المعنى تابعا للفظ ، ذلك أن السجع حلية والحلية لا تحقق غرضها في الجمال ما لم تكن قليلة غير متكلفة حسنة التوزيع تبرز المحاسن ولا تغطيها .
ويرتبط بالسجع رعاية المقاطع والفواصل فتكون جملا قصيرة نظرا للفائدة عند الوقوف في آخرها ، والجملة إذا طالت وتأخرت إفادتها للسامع أدركه الثقل والملل ، وضاعت عليه الفائدة وحسن المتابعة .
اللسان المعبر :
ويقصد به الإلقاء وحسن الإجادة فيه ، وقبل أن نبسط القول فيه يحسن التطرق لحديث مقارنة بين الارتجال والكتابة .
بين الارتجال والكتابة :
كثير من الكاتبين والناقدين يستحسنون في الخطيب أن يلقي خطبه ارتجالا , فهذا عندهم أعظم أثرا وأكثر انفعالا وأقدر على إعطاء الموقف متطلباته من خفض ورفع وتهدئة وزجر, وقد يدون المرتجل عناصر مقولته في كلمات أو جمل يعاود النظر إليها بين فينة وفينة .
وقد يوجد في الخطباء من يعد الخطبة ويحسن تحبيرها ثم يحفظها حفظا عن ظهر قلب .
والارتجال بأنواعه وطرقه لا يكون مؤثرا ما لم يسبقه إعداد محكم وحبك للعناصر في النفس على نحو ما سبق في الكلام على الأسلوب .
وثمت فئة من الناس تكتب الخطبة وتلقيها من القرطاس وهو مسلك مقبول , ولكن ذلك لا يؤتي ثمرته ولا يحقق غايته , ما لم يكن الخطيب أحسن الإعداد وتأمل فيما كتب وأعاد النظر فيه تأملا وقراءة وإصلاحا وتخيرا للألفاظ وانتقاء للعبارات, بحيث يكون في إلقائه متفاعلا مع ما يقول مستوعبا لما يلقى ليحرك المشاعر ويثير العواطف ويستحسن أن يكون في قراءاته وإلقائه مشرفا على السامعين بنظره بين فترة وأخرى ليعرف حالهم ويسبر مشاعرهم وانفعالاتهم .
الإلقاء :
هو الغاية التي ينتهي إليها الإعداد والبناء ، وهو الصورة التي يتلقى بها السامع حصيلة ما جاد به خطيبه ، فلا يبقى للخطبة أثرها ولا لحسن الأسلوب وقعه ولا لجودة التحضير ثمرته ما لم يصب في قالب من الإلقاء يحفظ الجهد ويبقي المهابة ويشنف الأسماع ، ومن أجل تحقيق ذلك يحسن مراعاة ما يلي :
جودة النطق :
فيخرج الحروف مخارجها من غير تشدق أو تكلف فيلقيها حسنة صحيحة واضحة في يسر وترفق وتدفق .
مجانبة اللحن :
ينبغي للخطيب أن يعتني عناية تامة باللغة العربية صرفا ونحوا فينطق لغة عربية صحيحة فصيحة ، فاللحن يفسد المعنى ولقلب المقصود .
وإذا فسد المعنى أو التبس ، ذهب رونق الخطبة وبهاؤها وحسن وقعها ، إضافة إلى فساد المعنى من حيت يدري أو لا يدري .
التمهل في الإلقاء :
النطق السريع المتعجل يفقد المتابعة كما أنه قد يشوه إخراج الحروف فيختلط بعضها ببعض وتتداخل المعاني وتلتبس العبارات وقد يؤدي به التعجل إلى إهمال الوقوف عند المقاطع ورعاية الفواصل .
ومن جهة أخرى فإن التمهل والترسل في الأداء من أول الدلائل على رباطة الجأش فيجمع للخطب الهدوء في الكلام ، والأناة في النطق ، والجزالة في الصوت .
وهذا التمهل الذي ندعو إليه لا ينبغي أن يقود إلى هدوء بارد وتثاقل مميت ولكنه تمهل لا يعارض ما يطلب من الخطيب من خفض ورفع وعلو نبرات مما يبعث على الحياة وحسن المتابعة ودفع السآمة .