إن وجود المسجد على الهيئة التي أراد الله أن تكون له، كما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين يكون من أهم آثاره انتشار العلم بين المصلين وغيرهم، لأن المصلي الذي يعتاد المساجد المعمورة بالعبادة والتعليم والذكر وقراءة القرآن، لا تمضي عليه فترة من عمره إلا وقد تعلم الكثير من أمور دينه ودنياه من الكتاب والسنة والتفسير والفقه وغيرها .
هذا إذا كان مجرد مستمع في حلقات الدروس التي تعقد في المسجد، أما إذا كان طالبًا ملازمًا للحلقات، وبيده كتابه وقلمه وورقه يقرأ، ويستمع لشرح شيخه معلمًا له ولطلابه الذين يتحلقون حوله، فتصبح الحلقة الواحدة بعد مضي سنوات حلقات في المسجد الذي تعلموا فيه أو في غيره لأن كل واحد في الحلقة يصبح شيخًا لحلقة، وهذا هو سر كثرة العلماء المتبحرين في القرون الأولى الذين صاروا أئمة في كل فن من فنون المعرفة .
ثم إن المصلى المستفيد من حلقات المسجد يفيد غيره، رب الأسرة يعلم أسرته ما تعلمه، والصديق يعلم صديقه، والمسافر إلى البلدان الأخرى لتجارة أو غيرها ينشر ما تعلمه بين أهل ذلك البلد الذي نزل به، والطالب المتخرج في ذلك المسجد إذا انتقل إلى بلد آخر نشر علمه في ذلك البلد في مسجدها إن كان لها مسجد، وإلا حض الناس على بناء المسجد وأوجد فيه حلقة للتعلم والتعليم، وهكذا تجد العلم ينتشر في كل أسرة وكل حي، بل وكل بلد بدون تكلف .
والمتعلمون في المساجد يمتازون على غيره، بوجود الحوافز الدافعة لهم إلى التعليم أكثر من غيرهم .
ولعل هذا هو السير- هو استثمار المسجد- في انتشار الإسلام في كثير من بلاد العالم، من إندونيسيا والفلبين واليابان في الشرق إلى أفريقيا إلى المحيط الأطلسي غربًا، وإلى وسط أوروبا وغربها وشمالها، في وقت لم توجد فيه جامعات ولا مدارس- إلا ما ندر- غير المسجد مع ضعف المواصلات وقلة الإمكانات المادية آنذاك، وكان الناس يهتمون بالسؤال عن أمور دينهم .
أما الآن فقد كثرة الجامعات ، وطلابها بالآلف، وللشعوب الإسلامية سفراء ، وبعضها تبعث الدعاة ،ومع ذلك نجد التأثير لا يرقى إلى مستوى التطلعات ولا هو في مستوى ما يبذل من أموال وجهود .